رساله يونس
كان أهل نينوي يعيشون فى الموصل فى أرض العراق فى رغد من العيش ..فقد أنعم الله عليهم بنعم كثيرة من الماء العذب الوفير , وكثرة الزروع والثمار ,فكان عندهم التمر الجيد,
وأنواع الفاكهه المختلفة ..وكان عدد أهل نينوي يزيد قليلاً عن مائة ألف شخص ..ورغم هذه النعم الكثيرة التي أنعم الله بها علي أهل نينوي فإنهم لم يكونوا يعبدون الله الواحد الأحد
بل انحرفوا عن طريق الله ومنهجه وتركوا عبادة الله واتبعوا الشيطان فكانوا يعبدون الأصنام من الحجارة والأخشاب .. كما زاد فيهم الفسق والفجور والعصيان وظلوا علي هذا الحال
مدة من الزمن..ولم يكن لله عز وجل أن يترك الناس ى ضلالهم ولا يعذبهم حتي عليهم الحجة ويرسل إليهم من يدعوهم إلي الله ,فإن عصوا عذبهم فى الدنيا والآخرة , قال تعالى:
وماكنا معذبين حتي نبعث رسولاً.. الاسراء 15 .
فأراد الله عز وجل بأهل نينوي خيراً ,فأرسل إليهم رسولاً منهم ونبياً من أفضلهم وهو يونس بن متي عليه السلام وأوحي الله عز وجل إليه أن يدعو قومه أهل نينوي إلي عبادة الله الواحد وترك
عبادة الأوثان التي لا تنفع ولا تضر ..
وبدأ يونس عليه السلام يدعو قومه .. ويبين لهم طريق الحق والرشاد , طريق عبادة الله عز وجل وراح يكلمهم عن الله عز وجل وأنه هو الذي خلقهم ورزقهم , وهو القادر على
موتهم وإحيائهم وهو وحده النافع لهم وهو خالق كل شئ .
ومن ناحية أخري راح يونس عليه السلام يبين لهم عجز آلهتهم الوثنية التي يعبدونها وانها لا تستطيع شيئاً فهي لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم وهي غير قادرة على النفع أو الضر فهي حجلرة
صماء لا قيمة لها ولا فائدة منها ..
كفر وعناد
كان يونس عليه السلام مثل كل الأنبياء ..متحمساً لدعوته..قائماً بها علي أكمل وجه..يدعو قومه فى الصباح والمساء ..وكلما استطاع إلي ذلك سبيلاً..وراح يدعوهم بدعوة
الأنبياء والرسل جميعاً من قبله ويقول لهم : ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره , ولكن اهل نينوي قابلوا دعوة يونس بالرفض والإنكار فلم يستجيبوا له ولم يصدقوا رسالته ورفضوا
أن يؤمنوا بالله وأصروا علي عبادة الأصنام وجحدوا نعم الله الكثيرة عليهم ..ورغم ذلك تحمل يونس عليه السلام كبرهم وغطرستهم وصبر علي هذا العناد الشديد واستمر فى دعوته
لهم بالحكمة والموعظة الحسنة .. لا يدخر وسعاً في نصحهم ولا يألو جهداً فى إرشادهم إلي الخير .. ويذكرهم بيوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم
ويأمرهم بالمعروف وفعل الصالحات والتزام الطاعات وينهاهم عن المنكر ويحذرهم من الفسوق والعصيان ..لكن موقف قومه لم يتغير وإصرارهم علي الكفر والعناد لم ينته وظلوا متمسكين
بعبادة الأصنام ورفضوا أن يستجيبوا لنبي الله يونس عليه السلام ..
خروج يونس
استمر يونس عليه السلام يحاول إقناع قومه بعبادة الله الواحد بكل الوسائل الممكنه وبمختلف الطرق لكنهم صموا آذانهم عن الاستماع إليه .. وكأن قلوبهم حجارة وعقولهم لا تعي
وأبصارهم لا تري .. حتي ضاق صدر نبي الله يونس عليه السلام بسبب إعراض قومه وضلالهم وامتلأ قلبه غضباً منهم,وسخطاً عليهم ..وشعر باليأس من إصلاحهم أو هدايتهم
وأحس أنهم لن يستجيبوا له أبداً ..فقرر أمراً خطيراً .. قرر الرحيل عنهم تاركاً إياهم فى كفرهم وضلالهم ..
وبالفعل استعد يونس عليه السلام للرحيل .. وقد امتلأ قلبه بالحزن والأسي علي قومه .. وقبل أن يرحل أنذرهم بحلول العذاب بهم وتوعدهم قائلاً :إن العذاب والهلاك والدمار سوف
يحل بكم وبقريتكم خلال ثلاثة أيام أو ثلاث ليال إن لم ترجعوا عن وكفركم وتتوبوا إلي الله وذكرهم بالعذاب الذي نزل علي الأمم السابقة التي كانت قبلهم كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ..
ثم تركهم وخرج من بينهم ..وأعلن أنه يخرج من أجل النجاة من عذاب الله الذي يوشك أن يحل بهم لكفرهم وطغيانهم ..وغادر يونس عليه السلام مدينة نينوي وحرص علي أن يكون
خروجه علي مرأي ومشهد من قومه قال تعالي:وذا النون إذ ذهب مغاضباً .. الأنبياء 87 .
خرج يونس عليه السلام من قومه ولم يكن أمر الله قد صدر إليه بالرحيل عن هذه القرية فلم يكن خروجة عن استئذان من الله تعالي أو عن وحي من الله إليه .. ولكنه ظن أن مافعله
لا يحتاج إلي إذن وإنما هو عمل متاح وغاب عن ذهنه من شدة غضبه علي قومه أن المفروض عليه أن يبقي وأن يستمر فى دعوته وأن يتحلي بالصبر وضبط النفس بدلاً من الغضب والتسرع
بالرحيل ..فهو كنبي عليه أن يصبر وألا ييئس من رحمة الله .. ويستمر فى الدعوة ..ولا شأن له بالنتيجة فليس علي الرسول إلا البلاغ .. وخرج يونس عليه السلام ولم يكن
يدري إلي أن يذهب ..فظل يسير حتي وصل إلي شاطئ البحر فرأي سفينه بعض الرجال فأشار إليهم وطلب منهم أن يأخذوه معهم ..فسأله قائد السفينه : إلي أين؟ فرد يونس عليه
السلام : إلي أى مكان بعيد عن هذه القرية الكافرة .
ثم ركب يونس عليه السلام معهم .. وأبحرت السفينه في البحر .. عليها يونس عليه السلام .. وكثير من الرجال والبضائع وكان ذلك وقت غروب الشمس .
توبة أهل نينوي
لما خرج يونس عليه السلام من مدينه نينوي .. وترك قومه .. تحققوا من نزول العذاب بهم .. وأيقنوا أن الهلاك سوف يصيبهم وبدأ الخوف والرعب يدب فى قلوبهم ..
ويتغلغل فى نفوسهم وراحوا يتذكرون صدق نبيهم وأمانته وحبه لهم وحرصه عليهم .. وأخذوا يراجعون أنفسهم .. ويرددون الأحاديث الطيبة عن يونس عليه السلام .. وكيف أنه
لم يكذب عليهم مرة , ولم يخدعهم أبداً وتأكدوا أن العذاب سوف ينزل بهم لأن الله عز وجل يعذب كل من كفر وأخذوا يفكرون فى العذاب وألوانه ومصائبه .. فربما تنزل عليهم صاعقه
من السماء أو تأتيهم صيحة من الأرض أو يخسف بهم أو يغرقهم الطوفان ..وعلم القوم أن ترك يونس للقرية معناه اقتراب العذاب .. فالله عز وجل عندما يريد أن يهلك قرية ظالمة
يوحي إلي نبيه أن يخرج منها وهذا ماحدث مع نبي الله صالح ونبي الله لوط وراح أهل نينوي يفكرون ماذا يفعلون .. فاجتمعوا وتشاوروا فيما بينهم وانتهوا إلي اتفاق عام وهو التوبة
إلي الله والإيمان به.. واستغفاره حتي يرفع عنهم العذاب وبالفعل قاموا وجمعوا نساءهم وأطفالهم ولبسوا ثياب الرهبان والزهاد وصعدوا الجبل وقد ندموا ندماً شديداً علي مافعلوا مع نبيهم
يونس عليه السلام وراحوا يبكون .. ويتضرعون إلي الله ويصرخون ويرفعون أيديهم إلي الله يطلبون منه المغفرة والعفو .. وظلوا علي هذا وقتاً طويلاً خوفاً من العذاب .. فلما
رأي الله عز وجل صدق توبتهم وندمهم وشدة بكائهم كشف عنهم العذاب ورفع عنهم العقاب ونجاهم وعفوه..
وقد كانت قرية نينوي هي القرية الوحيدة من الأمم السابقه التي آمنت كلها بالله الواحد فرفغ الله عنها العذاب والهلاك,قال تعالي : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها ايمانها إلا قوم يونس لما
آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي فى الحياة الدنيا ومتعناهم إلي حين .. يونس 98 .
فلما رفع الله عز وجل وعفا عن أهل نينوي فرحوا بذلك وشكروا الله عزوجل شكراً وعظيماً وحمدوه حمداً كبيراً وتوجهوا في عبادتهم لله الواحد , ولم يشركوا به شيئاً .
يونس فى السفينه
ظلت السفينه تسير فى عرض البحر , وتشق الأمواج بقوة وسرعة .. وفيها يونس عليه السلام علي وجهه علامات الأسي والحزن , وهو لايعلم أن قومه قد تابوا وآمنوا وأن الله عز
وجل رفع عنهم العذاب , وقبل توبتهم .. وراح يونس عليه السلام يتذكر العذاب الذي توعد به قومه .. ولا يدري ما سيكون مصيرهم كما لا يدري ماذا يكون مصيره هو ..
وبعد عدة ساعات .. غابت الشمس تماماً .. وجاء الظلام وخيم اللون الأسود علي الكون.. واستمرت السفينة فى السير .. وبها الناس بين الخوف والرجاء .. يتمنون
الوصول إلي الشاطئ الآخر بخير وسلام..
وما أن وصلت السفينة إلي منتصف البحر حتي هبت عاصفة شديدة .. وهاجت الريح ..وارتفعت الأمواج كالجبال..فتمايلت السفينة بشدة وسط الأمواج..وأصبحت علي حافة
الغرق بكل من فيها .. ودب الخوف فى نفوس الركاب.. وأحسوا أنهم غارقون لا محالة .. وراح قبطان السفينة يفكر مع الراكبين فى كيفية النجاة وسبل موجهة تلك الكارثة
فاتجه فكره إلي تخفيف حمولة السفينه فأشار علي الراكبين بذلك فوافقوا وأسرعوا إلي مامعهم من أحمال وأشياء ثقيلة فألقوها فى الماء وهم يظنون أن تخفيف حمل السفينة سوف يقلل من
خطورة الأمر وبعد أن ألقوا الأمتعه والأشياء الثقيلة انتظروا أن يهدأ الحال وأن تعود السفينة إلي طبيعتها ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث فقد زادت الأمواج إرتفاعاً واشتد هياج الريح ومازالت
السفينة تتأرجح وتنذر بالغرق والهلاك..فقال قائد السفينة : لقد ثارت العاصفة فى غير وقتها المعهود .. لابد أن معنا شخصاً خاطئاً حدثت بسببه تلك العاصفة, وسنجري القرعة
علي الراكبين جميعاً.. ومن خرج من اسمه ألقيناه فى البحر.. وذلك من أجل الباقيين وسلامتهم من الغرق والهلاك .
وكان هذا الأمر شيئاً طبيعياً ومعهودا بين الركاب وتقليداً من تقاليد البحارة عندما يواجهون مثل هذه العاصفة ..لذلك وافق الجميع على هذا الأمر ..
وأجريت القرعة ..فوقعت علي نبي الله يونس عليه السلام ولكن الركاب رفضوا أن يرمي يونس نفسه فى البحر..وقد رأوا أخلاقه الحسنة..وصفاته الطيبة..فأصروا أن تجري
القرعة مرة ثانية..فأعادوا القرعة ثانية فوقعت علي يونس أيضاً.. فقام يونس عليه السلام وخلع ملابسة وأراد أن يلقي نفسه فى البحر ولكن الركاب أبوا عليه ذلك ..ثم أعادوا
القرعة للمرة الثالثة..فوقعت عليه أيضاً..وذلك ليتحقق مايريده الله به من أمر عظيم وقدر محتوم..
ابتلاع يونس
لما وقعت القرعة علي يونس عليه السلام ثلاث مرات .. قام وألقي بنفسه فى البحر .. وقدر أدرك أنه أخطأ حين ترك قومه غاضباً بغير إذن من الله ورايح يونس يسبح ويلاطم الموج
ويطفو علي سطح الماء.. بينما سارت السفينة بعد ذلك فى أمان تواصل رحلتها ناجية بمن فيها..
وبعد لحظات ..رأي يونس حوتاً كبيراً يتجه نحوه..فأخذ يسبح بقوة ضارباً الماء بذراعيه ..وأصبح معرضاً للموت المؤكد وإن لم يكن غرقاً فسيكون هلاكاً من مهاجمة ذلك الحوت
الشرس .. وحاول يونس أن يبتعد عن الحوت .. ولكن الحوت لحق به..وفتح فمه الواسع..وابتلع يونس فى جوفه في لحظه..ثم نزل به إلي أعماق البحر.. قال تعالي:
وإن يونس لمن المرسلين.إذ أبق إلي الفلق المشحون.فساهم فكان من المدحضين.فالتقمه الحوت وهو مليم .. 139:142 .
وكان ابتلاع الحوت ليونس عليه السلام بأمر من الله عز وجل أن يبتلعه مره واحده بشرط ألا يأكل منه أي جزء ولو كان صغيراً فهو ليس طعاماً له.. وإنما فقط يبتلعه دون أن يأكل منه
لحماً أو يكسر له عظماً..فنفذ الحوت أمر الله تماماً وابتلع يونس عليه السلام فى جوفه فقط وراح يطوف به فى البحر وأصبح يونس عليه السلام فى ظلمات ثلاث: ظلمة بطن الحوت
وظلمة أعماق البحر وظلمة الليل .
وافاق يونس فى بطن الحوت فوجد نفسه حياً وعلم أن هذا بلاء عظيم من الله فأيقن أنه أخطأ وظلم نفسه عندما يأس من هداية قومه..وظلمهم حينما خرج وتركهم دون أن يأذن الله عز وجل له
بذلك .
تسبيح ..ونجاة
لما استقر يونس عليه السلام فى بطن الحوت توجه إلي الله وخر ساجداً له سبحانه وتعالي وقال: يارب اتخذت لك مسجداً فى موضع لم يعبدك أحد فى مثله.. ثم دعا ربه قائلاً : لا إله
إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .. الأنبياء 87 .
واستمر يونس عليه السلام يكرر هذه الكلمات التي ألهمه الله بها .. وقد كان لهذه الكلمات أثر كبير فى نجاته.. لأنها دعوة مستجابة .. لا يدعو بها مكروب إلا فرج الله كربه
ورفع عنه شدته وقد أخبر بذلك النبي محمد صلي الله عليه وسلم حيث قال : من دعا بدعاء يونس استجب له .
فأخذ يونس عليه السلام يردد هذا الدعاء فترة من الزمن فى بطن الحوت وأمله كبير فى النجاة وتفريج الكرب .. حتي جاء الأمر من الله عز وجل للحوت أن يلفظ يونس عليه السلام من
بطنه إلي شاطئ البحر فقد قبل الله توبته واستجاب دعاءه وتسبيحه .. قال تعالي : فلولا أنه كان من المسبحين للبث فى بطنه إلي يوم يبعثون .. الصفات 143:144 .
واتجه الحوت ناحية شاطئ البحر ولفظ يونس عليه السلام من بطنه فخرج يونس من فم الحوت علي الساحل فى أرض واسعه وقد صار مريضاً عاري الجسد ملتهب الجلد وكانت الشمس
حارقة فلسعت أشعتها جسده فكاد أن يصيح من شدة الألم ولكنه تماسك وراح يكثر من التسبيح والدعاء ..حتي أدركته رحمة الله فأنبت الله عز وجل له شجرة قرع وهي شجرة أوراقها
عريضة حتي تحميه من حرارة الشمس وكما أن ثمارها لذيذة أكل منها وجلس فى ظلها حتي شفاه الله واسترد صحته وقوته , قال تعالي : فنبذناه بالعراء وهو سقيم وانبتنا عليه شجرة من
يقطين .. الصفات 145:146 .
العودة للوطن
بعدما استرد يونس عليه السلام عافيته وعادت إليه صحته وقوته أوحي الله عز وجل إليه أن قومه الذين تركهم غاضباً منهم بسبب كفرهم قد تابوا جميعاً وآمنوا بالله وقد قبل الله عز وجل توبتهم
وكشف عنهم العذاب .. ففرح يونس عليه السلام بذلك فرحاً شديداً فأمره الله عز وجل أن يعود إليهم ويعيش بينهم ويعلمهم شرائع الدين الحق ..فامتثل يونس عليه السلام لأمر الله
وقام تاركاً الساحل والشجرة التي أنبتها الله له وتجه إلي بلدة نينوي بالعراق عائداً إلي وطنه وقومه.. ولما رأوه أقبلوا عليه بالفرح والسرور وأخذوا يعانقونه ويقبلون يده وقدمه واعترفوا
بنبوته ورسالته فأخبرهم يونس عليه السلام بأن الله قد قبل توبتهم ورضي عنهم فزادهم بذلك حباً لله ونبيه يونس عليه السلام بينهم ..واستمروا علي عبادة الله الواحد وعاش يونس عليه
السلام بينهم يأمرهم بالمعروف ويعلمهم شرائع الدين وأصبحت قريتهم مثالاًُ للقرية الصالحة المؤمنة ,قال تعالي : وأرسلناه إلي مئة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلي حين ..
الصافات 147:148 .