زواجه خديجة
فلما قَدِما مكة ورأت خديجة ربحها العظيم سُرَّت من الأمين عليه الصلاة والسلام وأرسلت إليه تخْطُبُهُ لنفسها، وكانت سنها نحو الأربعين، وهي من أوسط قريش حسباً وأوسعهم مالاً، فقام الأمين عليه الصلاة والسلام مع أعمامه حتى دخل على عمّها عمروبن أسد، فخطبها منه بواسطة عمه أبي طالب، فزوّجها عمّها. وقد خطب أبو طالب في هذا اليوم فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل وضِئْضِىءِ معدّ، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته وسُوّاس حرمه، وجعله لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمناً، وجعلنا حكّام الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمدبن عبد الله لا يُوزن به رجل شرفاً ونبلاً وفضلاً، وإن كان في المال قُلٌّ، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، وعارية مستردّة، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل، وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة، وقد بذل لها من الصَّدَاقِ كذا. وعلى ذلك تم الأمر. وقد كانت متزوجة قبله بأبي هالة، توفي عنها وله منها ولد اسمه هالة، وهو ربيب المصطفى عليه الصلاة والسلام.
بناء البيت
________________________________________
ولما بلغت سنه عليه الصلاة والسلام خمساً وثلاثين سنة، جاء سيل جارف فصدَّع جدران الكعبة بعد توهينها من حريق كان أصابها قبل، فأرادت قريش هدمها ليرفعوها ويسقفوها، فإنها كانت رضيمة فوق القامة، فاجتمعت قبائلهم لذلك، ولكنهم هابوا هدمها لمكانها في قلوبهم. فقال لهم الوليدبن المغيرة: أتريدون بهدمها الإصلاح أم الإساءة؟ قالوا: بل الإصلاح، قال: إن الله لا يهلك المُصلِحين، وشرع يهدم فتبعوه وهدموا حتى وصلوا إلى أساس إسماعيل، وهناك وجدوا صِحافاً نُقش فيها كثير من الحِكَم على عادة مَنْ يضعون أساس بناء شهير ليكون تذكرة للمتأخرين بعمل المتقدمين. ثم ابتدؤوا في البناء وأعدّوا لذلك نفقة ليس فيها مَهرُ بغيَ ولا بيعُ رِبا، وجعل الأشراف من قريش يحملون الحجارة على أعناقهم، وكان العباس ورسول الله فيمن يحمل، وكان الذي يلي البناء نجار رومي اسمه باقوم، وقد خصّص لكل ركن جماعة من العظماء ينقلون إليه الحجارة، وقد ضاقت بهم النفقة الطيبة عن إتمامه على قواعد إسماعيل، فأخرجوا منها الحِجْرَ، وبنوا عليه جداراً قصيراً، علامة على أنه من الكعبة، ولما تم البناء ثمانية عشر ذراعاً بحيث زِيدَ فيه عن أصله تسعة أذرع ورفع الباب عن الأرض بحيث لا يُصعد إليه إلا بدرج أرادوا وضع الحجر الأسود موضعه، فاختلف أشرافهم فيمن يضعه، وتنافسوا في ذلك حتى كادت تشبّ بينهم نار الحرب، ودام بينهم هذا الخصام أربع ليالٍ، وكان أسنّ رجل في قريش إذ ذاك أبو أميةبن المغيرة المخزومي عمُّ خالدبن الوليد فقال لهم: يا قوم لا تختلفوا وحكِّموا بينكم من ترضون بحكمه. فقالوا: نَكِلُ الأمر لأوّل داخل، فكان هذا الداخل هو الأمين المأمون عليه الصلاة والسلام، فاطمأن الجميع له لِمَا يعهدونه فيه من الأمانة وصدق الحديث وقالوا: هذا الأمين رضيناه، هذا محمد؛ لأنهم كانوا يتحاكمون إليه إذ كان لا يُداري ولا يُماري. فلما أخبروه الخبر بسط رداءه وقال: لتأخذ كل قبيلة بناحية
________________________________________
من الثوب، ثم وضع فيه الحجر وأمرهم برفعه حتى انتهوا إلى موضعه فأخذه ووضعه فيه وهكذا انتهت هذه المشكلة التي كثيراً ما يكون أمثالها سبباً في انتشار حروب هائلة بين العرب، لولا أن مَنَّ الله عليهم بعاقل مثل أبي أمية يرشدهم إلى الخير، وحكيم مثل الرسول صلى الله عليه وسلم يقضي بينهم بما يُرضي جميعهم. ولا يُستغرب من قريش تنافسهم هذا، لأن البيت قِبلَة العرب وكعبتهم التي يحجّون إليها، فكل عمل فيه عظيم به الفخر والسيادة، وهو أول بيت وُضِع للعبادة بشهادة القرآن الكريم، قال تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَالَمِينَ(96) فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْراهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً} (آل عمران: 96، 97) وكان يلي أمره بعد ولد إسماعيل قبيلة جُرهم فلما بَغوا وظلموا مَنْ دخل مكة اجتمعت عليهم خزاعة وأجلَوهم عن البيت، ووليته خزاعة حيناً من الدهر، ثم أخذته منهم في عهد قصيبن كلاب، وبسببه أمِنوا في بلادهم، فكانت قبائل العرب تهابهم، وإذا احتموا به كان حصناً أميناً من اعتداء العادين، وامتنّ الله عليهم بذلك في تنزيله، فقال في سورة العنكبوت: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (العنكبوت: 67).