ابسم الله الرحمن الرحيم
اخوتي الكرام لنناقش معا موضوع المصدفة الذي يقول البعض انه اوجد الكون لنتابع
- القول بالمصادفة
بعد توضيح الدليل القرآني الذي يخاطب العقول ، ويلزمها بالاعتراف بوجود الخالق المعبود ، يبدو القول إنّ هذا الكون خلق مصادفة من غير خالق ليس قولاً بعيداً عن الصواب فحسب ، بل قول بعيد عن المعقول يدخل صاحبه في عداد المخرفين الذين فقدوا عقولهم أو كادوا ، فهم يكابرون في الدليل الذي لا يجد العقل بُدّاً من التسليم به .
لقد وجد من يقول : " لو جلست ستة من القردة على آلات كاتبة ، وظلت تضرب على حروفها بلايين السنين ، فلا نستبعد أن نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبتها قصيدة من قصائد شكسبير ، فكذلك الكون الموجود الآن ، إنما وجد نتيجة لعمليات عمياء ، ظلت تدور في (( المادة )) لبلايين السنين " .
يقول وحيد الدين خان (1) بعد نقله لهذه الفقرة من كلام ( هكسلي ) (2) : " إنَّ أيّ كلام من هذا القبيل لغو مثير بكل ما تحويه هذه الكلمة من معان ، فإنّ جميع علومنا تجهل – إلى يوم الناس هذا – أية مصادفة أنتجت واقعاً عظيماً ذا روح عجيبة ، في روعة الكون " .
وينقل عن عالم آخر إنكاره لهذه المقالة قوله : " إنّ القول إن الحياة وجدت نتيجة حادث اتفاقي شبيه في مغزاه بأن نتوقع إعداد معجم ضخم نتيجة انفجار صدفي يقع في مطبعة " .
ويقرر وحيد الدين خان : " أنّ الرياضيات التي تعطينا نكتة المصادفة ، هي نفسها التي تنفي أيّ إمكان رياضي في وجود الكون الحالي بفعل قانون المصادفة " .
وخذ هذا المثال الذي نقله وحيد الدين خان عن العالم الأمريكي ( كريستي موريسون ) يبين فيه استحالة القول بوجود الكون مصادفة :
(1/10)
________________________________________
قال : " لو تناولت عشرة دراهم ، وكتبت عليها الأعداد من واحد إلى عشرة ، ثم رميتها في جيبك ، وخلطتها جيداً ، ثم حاولت أن تخرج من الواحد إلى العاشر بالترتيب العددي بحيث تلقي كلّ درهم في جيبك بعد تناوله مرة أخرى ، فإمكان أن نتناول الدرهم المكتوب عليه واحد في المحاولة الأولى هو واحد في العشرة ، وإمكان أن نخرج الدراهم من (1-10) بالترتيب واحد في عشرة بلايين " . (3)
وعلى ذلك فكم يستغرق بناء هذا الكون لو نشأ بالمصادفة والاتفاق ؟ إنَّ حساب ذلك بالطريقة نفسها يجعل هذا الاحتمال خيالياً يصعب حسابه فضلاً عن تصوره .
إنَّ كلَّ ما في الكون يحكي أنَّه إيجاد موجد حكيم عليم خبير ، ولكنَّ الإنسان ظلوم جهول ( قتل الإنسان ما أكفره – من أي شيء خلقه – من نطفةٍ خلقه فقدره – ثم السبيل يسره – ثم أماته فأقبره – ثم إذا شاء أنشره – كلا لمّا يقض ما أمره – فلينظر الإنسان إلى طعامه – أنا صببنا الماء صباً – ثم شققنا الأرض شقاً – فأنبتنا فيها حباً – وعنباً وقضباً – وزيتوناً ونخلاً ) [ عبس : 17-29 ] .
كيف يمكن أن تتأتى المصادفة في خلق الإنسان وتكوينه ، وفي صنع طعامه على هذا النحو المقدّر الذي تشارك فيه الأرض والسماء ، وصدق الله في وصفه للإنسان ( إنَّه كان ظلوماً جهولاً ) [ الأحزاب : 72 ] . (4)
--------------------------------
(1) الإسلام يتحدى : ص 66 .
(2) ( هكسلي ) هو الكاتب الملحد الذي كتب كتابه المعروف ( الإنسان يقوم وحده ) ، فسخّر الله له عالماً من ملته هو ( أ. كريستي موريسون رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك وعضو سابق في المجلس التنفيذي لمجلس البحوث القومي بالولايات المتحدة ) ، فسطر كتابه القيم ( الإنسان لا يقوم وحده ) رداً على (هكسلي) وقد ترجم هذا الكتاب تحت عنوان ( العلم يدعو إلى الإيمان ) .
(3) انظر : العلم يدعو إلى الإيمان : ص 51 .
(1/11)
________________________________________
(4) وسيأتي مزيد بحث لهذه المسألة عند الكلام على الآيات الكونية إن شاء الله تعالى .
الرد على شبهات الملحدين في نشأة الكون ( الطبيعة )
2- قالوا الطبيعة هي الخالق
وهذه فرية راجت في عصرنا هذا ، راجت حتى على الذين نبغوا في العلوم المادّية ، وعلل كثيرون وجود الأشياء وحدوثها بها ، فقالوا : الطبيعة هي التي تُوجد وتُحدِث .
وهؤلاء نوجه لهم هذا السؤال : ماذا تريدون بالطبيعة ؟ هل تعنون بالطبيعة ذوات الأشياء ؟ أم تريدون بها السنن والقوانين والضوابط التي تحكم الكون ؟ أم تريدون بها قوة أخرى وراء هذا الكون أوجدته وأبدعته ؟
إذا قالوا : نعني بالطبيعة الكون نفسه ، فإننا لا نحتاج إلى الردّ عليهم ، لأنّ فساد قولهم معلوم ممّا مضى ، فهذا القول يصبح ترديداً للقول السابق إنّ الشيء يوجد نفسه ، أي : إنّهم يقولون الكون خلق الكون ، فالسماء خلقت السماء ، والأرض خلقت الأرض ، والكون خلق الإنسان والحيوان ، وقد بيّنا أنّ العقل الإنساني يرفض التسليم بأنّ الشيء يوجد نفسه ، ونزيد الأمر إيضاحاً فنقول : والشيء لا يخلق شيئاً أرقى منه ، فالطبيعة من سماء وأرض ونجوم وشموس وأقمار لا تملك عقلاً ولا سمعاً ولا بصراً ، فكيف تخلق إنساناً سميعاً عليماً بصيراً ! هذا لا يكون .
فإن قالوا : خُلق ذلك كله مصادفة ، قلنا : ثبت لدينا يقيناً أن لا مصادفة في خلق الكون ، وقد تبينا ذلك فيما سبق .
نظرية التولد الذاتي ( شبهة ثبت بطلانها ) :
وكان مما ساعد على انتشار الوثنية الجديدة ( القول إنّ الطبيعة هي الخالق ) هو ما شاهده العلماء الطبيعيون من تكون (دود) على براز الإنسان أو الحيوان ، وتكوّن بكتيريا تأكل الطعام فتفسده ، فقالوا : ها هي ذي حيوانات تتولد من الطبيعة وحدها .
(1/12)
________________________________________
وراجت هذه النظرية التي مكنت للوثن الجديد ( الطبيعة ) في قلوب الضالين التائهين بعيداً عن هدى الله الحق ، لكنّ الحق ما لبن أن كشف باطل هذه النظرية على يد العالم الفرنسي المشهور ( باستير ) الذي أثبت أنّ الدود المتكون ، والبكتيريا المتكونة المشار إليها لم تتولد ذاتياً من الطبيعة ، وإنّما من أصول صغيرة سابقة لم تتمكن العين من مشاهدتها ، وقام بتقديم الأدلة التي أقنعت العلماء بصدق قوله ، فوضع غذاء وعزله عن الهواء ، وأمات البكتريا بالغليان ، فما تكونت بكتيريا جديدة ، ولم يفسد الطعام ، وهذه النظرية التي قامت عليها صناعة الأغذية المحفوظة ( المعلبات ) . (1)
الطبيعة هي القوانين التي تحكم الكون :
ويرى فريق آخر أنّ الطبيعة هي القوانين التي تحكم الكون ، وهذا تفسير الذين يدّعون العلم والمعرفة من القائلين إنّ الطبيعة هي الخالق ، فهم يقولون : إنّ هذا الكون يسير على سنن وقوانين تسيّره وتنظم أموره في كل جزئية ، والأحداث التي تحدث فيه تقع وفق هذه القوانين ، مثله كمثل الساعة التي تسير بدقة وانتظام دهراً طويلاً ، فإنها تسير بذاتها بدون مسيّر .
وهؤلاء في واقع الأمر لا يجيبون عن السؤال المطروح : من خلق الكون ؟
ولكنهم يكشفون لنا عن الكيفية التي يعمل الكون بها ، هم يكشفون لنا كيف تعمل القوانين في الأشياء ، ونحن نريد إجابة عن موجد الكون وموجد القوانين التي تحكمه .
يقول وحيد الدين خان : " كان الإنسان القديم يعرف أنّ السماء تمطر ، لكننا اليوم نعرف كلّ شيء عن عملية تبخر الماء في البحر ، حتى نزول قطرات الماء على الأرض ، وكلّ هذه المشاهدات صور للوقائع ، وليست في ذاتها تفسيراً لها ، فالعلم لا يكشف لنا كيف صارت هذه الوقائع قوانين ؟ وكيف قامت بين الأرض والسماء على هذه الصورة المفيدة المدهشة ، حتى إنّ العلماء يستنبطون منها قوانين علمية .
(1/13)
________________________________________
إنّ ادعاء الإنسان بعد كشفه لنظام الطبيعة أنّه قد كشف تفسير الكون ليس سوى خدعة لنفسه ، فإنّه قد وضع بهذا الادعاء حلقة من وسط السلسلة مكان الحلقة الأخيرة .
إن الطبيعة لا تفسّر شيئاً ( من الكون ) وإنّما هي نفسها بحاجة إلى تفسير .
واقرأ هذه المحاورة التي يمكن أن تجرى بين رجل نابه ، وأحد الأطباء الأفذاذ في علمهم :
السائل : ما السبب في احمرار الدم ؟
الطبيب : لأنّ في الدّمِ خلايا حمراء ، حجم كل خلية منها : 1/700 من البوصة .
السائل : حسناً ، ولكن لماذا تكون هذه الخلايا حمراء ؟
الطبيب : في هذه الخلايا مادة تسمى ( الهميوجلوبين ) ، وهي مادة تحدث لها الحمرة حين تختلط بالأكسجين في القلب .
السائل : هذا جميل ، ولكن من أين تأتي هذه الخلايا التي تحمل ( الهميوجلوبين ) ؟
الطبيب : إنها تصنع في كبدك .
السائل : عجيب ! ولكن كيف ترتبط هذه الأشياء الكثيرة من الدّم والخلايا والكبد وغيرها ، بعضها ببعض ارتباطاً كلياً وتسير نحو أداء واجبها المطلوب بهذه الدّقة الفائقة ؟
الطبيب : هذا ما نسميه بقانون الطبيعة .
السائل : ولكن ما المراد بقانون الطبيعة هذا يا سيادة الطبيب ؟
الطبيب : المراد بهذا القانون هو الحركات الداخلية العمياء للقوى الطبيعية والكيماوية .
السائل : ولكن لماذا تهدف هذه القوى دائماً إلى نتيجة معلومة ؟ وكيف تنظم نشاطها حتى تطير الطيور في الهواء ، ويعيش السمك في الماء ، ويوجد إنسان في الدّنيا ، بجميع ما لديه من الإمكانات والكفاءات العجيبة المثيرة ؟
الطبيب : لا تسألني عن هذا ، فإنّ علمي لا يتكلم إلا عما يحدث ، وليس له أن يجيب : لماذا يحدث ؟
(1/14)
________________________________________
يتضح من هذه الأسئلة مدى صلاحية العلم الحديث لشرح العلل والأسباب وراء هذا الكون : إن مثل الكون كمثل آلة تدور تحت غطائها ، لا نعلم عنها إلا أنّها تدور (( ولكن لو فتحنا غطاءها فسوف نشاهد كيف ترتبد هذه الآلة بدوائر وتروس كثيرة ، يدور بعضها ببعض ، ونشاهد حركاتها كلّها . هل معنى هذا أنّنا قد علمنا خالق هذه الآلة بمجرد مشاهدتنا لما يدور بداخلها ؟ كيف يفهم منطقياً أن مشاهدتنا هذه أثبتت أن الآلة جاءت من تلقاء ذاتها ، وتقوم بدورها ذاتياً ؟! " . (2)