القرآن ونظرية دارون :
(1/25)
________________________________________
حين يتكلم القرآن في الحقائق الأزلية فعلى الناس أن يصغوا وينصتوا ( وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) [ الأعراف : 204 ] ، لأنه من العليم الخبير الذي أحاط بكل شيء علماً ، وما علم الإنسان ! إنّه لا شيء بجانب علم الله ( والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) [ البقرة : 216 ] .
وكيف لا يعلم أمر خلقه وهو الذي خلقهم ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) [ الملك : 14 ] .
وكيف يسمح النّاس لأنفسهم أن يتحدثوا عن أصلهم البعيد وهم لم يشهدوا ذلك الخلق ( مَّا أشهدتُّهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ) [ الكهف : 51 ] .
وما داموا لم يشهدوا ، فإنّ صوابهم في هذا المجال قليل ، وخطؤهم كثير .
عكس هذه النظرية هو الصواب :
الذي يقرره العليم الخبير خالق الإنسان مخالف تماماً لما قرره هؤلاء الجاهلون ، فالله يخبرنا أنّه خلق الإنسان خلقاً مستقلاً مكتملاً ، وقد أخبر ملائكته بشأن خلقه قبل أن يوجده ( وإذ قال ربك للملائِكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً ) [ البقرة : 30 ] .
وحدثنا عن المادة التي خلقه منها ، فقد خلقه من تراب ( فإنَّا خلقناكم من ترابٍ ) [الحج : 5] .
وفي الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنّ الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، منهم الأحمر والأبيض والأسود ، وبين ذلك ، والسهل والحزْنُ ، والخَبِيثُ والطيبُ ) . (2)
والماء عنصر في خلق الإنسان ( والله خلق كل دابةٍ من مَّاءٍ ) [ النور : 45 ] ، فهو من ماء وتراب : ( هو الذي خلقكم من طينٍ ) [ الأنعام : 2 ] .
هذا الطين تحوّل إلى صلصال كالفخار ( خلق الإنسان من صلصالٍ كالفخَّار ) [الرحمن : 14] .
وقد خلقه الله بيديه ( قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) [ص:75] .
(1/26)
________________________________________
وقد خلقه مجوّفاً منذ البداية ، ففي الحديث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لما صوَّر الله آدم في الجنَّة تركه ما شاء الله أن يتركه ، فجعل إبليسُ يطيفُ به ينظر ، فلمّا رآهُ أجوف عرف أنّه خُلق خلقاً لا يتمالك ) . (3)
هذا الطين نفخ الله فيه من روحه ، فدّبت فيه الحياة ، فأصبح سميعاً بصيراً متكلماً عاقلاً واعياً ، فقد أمر الله الملائكة بالسجود لآدم حين ينفخ فيه الروح ، وتدبّ فيه الحياة ( فإذا سوَّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) [ ص : 72 ] .
وأخبرنا الله بالمكان الذي أسكنه فيه بعد خلقه ( وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ) [ البقرة : 35 ] .
وبمجرد أن تمّ خلقه أخذ يتكلم ويفقه ما يقال له ، ففي القرآن ( وعلم آدم الأسماء كلها ثمَّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين – قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم – قال يا آدم أنبئهم بأسمائِهم ) [ البقرة : 31-33 ] .
وفي حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس ، فقال : الحمد لله ، فحمد الله بإذنه ، فقال له ربه : يرحمك الله يا آدم ، اذهب إلى أولئك الملائكة – إلى ملأٍ منهم جلوسٌ فَقُل : السلام عليكم . قالوا : عليك السلام ورحمة الله .. ) . (4)
هذا الإنسان الأول هو آدم وهو أبو الناس كافة ، وخلق الله من آدم زوجه حواء ، ( يا أيُّها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها )[النساء:1] .
ولم يكن خلق الإنسان ناقصاً ثم اكتمل ، كما يقول أصحاب نظرية التطوّر ؛ بل كان كاملاً ، ثمّ أخذ يتناقص الخلق ، ففي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : ( خلق الله آدم وطولُهُ : سِتّون ذراعاً ) . (5)
(1/27)
________________________________________
ولذلك فالمؤمنون يدخلون الجنّة مكتملين على صورة آدم ، ففي بقية الحديث السابق : ( فكلّ من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعاً ) ، ثم يقول صلى الله عليه وسلم : ( فلم يزل الخلق ينقُصُ بعده حتّى الآن ) . (6)
وقد أخبرنا الحق أنه مسخ بعض الضالين من البشر قردة وخنازير ، فالمستوى الراقي من الخلق يمكن أن ينحدر إلى المستوى الأدنى ، أمّا أن تُحوّل القرود والخنازير بشراً فهذا لا يوجد إلا عند أصحاب العقول الضعيفة .
هذه لمحة مما حكاه القرآن وأخبرت به الأحاديث عن خلق الإنسان الأول ، لم نستقص النصوص من الكتاب والسنّة في ذلك ، وإلا فالقول في ذلك أوسع وطويل ، وهو يعطي صورة واضحة لأصل الإنسان ليس فيها غبش ولا خيال ، وهذا الذي يبيّنه الإسلام أصل كريم يعتز الإنسان بالانتساب إليه ، أمّا ذلك الإنسان الذي يصوّره أصحاب نظرية التطور ، ذلك القرد الذي ترقى عن فأر أو صرصور فإنّه أصل يخجل الإنسان من الانتساب إليه .
وذلك الإنسان الذي يُدَرّسه علماء التاريخ للأطفال : الإنسان المتوحش الذي لا يفقه الكلام ، ولا يحسن صنع شيء ، الذي يتعلم من الحيوان ... فيه الكثير من التجني على أصل الإنسان الكريم .
وبعد :
فقد آن أن نفيق وأن نعود إلى ديننا الذي جاء به كتاب ربنا ، ففيه الخير ( فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من ابتغى الهدى من غيره أضله الله ... ) .
آن لنا أن نِعفّ عن نتاج العقول الآسنة المتعفنة في مثل هذه المجالات ، أعني المجالات التي قال الله فيها كلمة الفصل ، ولم يترك لأحد فيها قولاً .
يجب أن تتوقف هذه الهزيمة الفكرية التي تجعلنا نسارع إلى قبول كل جديد بدون رويّة وتفكر ، ثم لا نفيق على خطأ ما أخذناه إلا بعد أن يهدمه بناتُه .
--------------------------------
(1) كتاب التوحيد ، للزنداني : 3/81 .
(2) رواه أحمد والترمذي وأبو داود ( مشكاة المصابيح 1/36 . ورقمه : 100) .
(1/28)
________________________________________
(3) صحيح مسلم : 4/2016 ، ورقمه : 2611 .
(4) رواه الترمذي : مشكاة المصابيح 2/542 ، ورقمه : 4662 . وقال محقق المشكاة : صححه الحاكم ووافقه الذهبي . وهو كما قالا .
(5) صحيح البخاري : 6/362 ، ورقمه : 3326 ، ورواه مسلم في صحيحه : 4/2183 ، ورقمه : 2841 ، واللفظ للبخاري .
(6) المصدران السابقان ، إلا أن اللفظ هنا لمسلم .
المصدر كتاب سلسلة العقيدة