كان الخليفة العباسي المأمون متأثرا بكتب فلاسفة اليونان حتى ترجم منها الكثير؛وقد تلوث فكره بما تتقيؤه هذه الكتب من العقائد المنحرفة؛وكان يريد أن يظهر القول: بأن القرآن مخلوق ؛[والذي عليه المسلمون أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن اعتقد غير ذلك فإنه كافر، وذلك لأن الهدف من هذا القول الباطل نفي صفات الله عز وجل ونفي صفة الكلام لله-عز وجل-، والله سبحانه يوصف بأنه يتكلم كلاما يليق بجلاله]
فلما كان عام مائتين وأربعة عشر للهجرة؛حمل المأمون الناس على الفتنة؛ وأظهر ذلك القول الباطل،وامتحن به أهل العلم؛فمنهم من خاف السيف وتأول بين يدي المامون ظاهرا مكرها؛ومنهم من ثبت على الحق ظاهرا وباطنا ولم يُجب الخليفة إلى ما دعا إليه...
وكان ممن رد هذه المقالة الإمام أحمد بن حنبل-إمام أهل السنة والجماعة- ومحمد بن نوح رفيقه في المحنة الذي قال فيه الإمام احمد "رأيت أحدا على حداثة سنه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح؛ وإني لأرجو أن يكون قد ختم له بخير"
ذهب بهم إسحاق بن إبراهيم إلي المأمون وقيدهم بقيود كثيرة حتى كادوا لا يستطيعوا الذهاب من القيود
وهنا يأتي الصالحون، لينتهزوا الفرصة ليلقوا بالوصايا التي تثبت في المواقف الحرجة ففي السير: أن [أبا جعفر الأنباري] قال :ما حُمل الإمام أحمد إلى المأمون أخبرت، فعبرت الفرات، وجئته، فسلمت عليه، وقلت: يا إمام أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك؛ فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبنَّ خلق كثير، وإن لم تجب ليمتنعن خلق كثير، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت، لابد من الموت فاتق الله ولا تجبه،
والإمام أحمد في سياق رحلته إلى [المأمون] يقول: وصلنا إلى رحبة، ورحلنا منها في جوف الليل، قال: فعرض لنا رجل، فقال: أيكم أحمد ابن حنبل؟ فقيل: هذا، فقال: يا هذا ما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنة، ثم قال: أستودعك الله، ومضى.
وأعرابي يعترضه، ويقول: يا هذا إنك وافد الناس فلا تكن شؤمًا عليهم، إنك رأس الناس فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه؛ فيجيبوا فتحمل أوزارهم يوم القيامة إن كنت تحب الله فاصبر؛ فوالله ما بينك وبين الجنة إلاّ أن تقتل، ويقول الإمام أحمد: ما سمعت كلمة مذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في <رحبة طو>، قال : يا أحمد إن يقتلك الحق مت شهيدًا، وإن عشت عشت حميداً فقوَّى بها قلبي
لما وصلا للمأمون جاء خادم للإمام احمد بن حنبل وهو يكفكف دموعه ويقول :"عز علي يا أبا عبدالله أنْ جرد أمير المؤمنين سيفاً لم يجرده قط؛وبسط نطعا لم يبسطه قط..."
فبرك أحمد على ركبتيه ولحظ إلى السماء بعينه ثم قال:سيدي غر هذا الفاجر حلمك، حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل ؛اللهم فإن يكنْ القرآنُ كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته ؛فما مضى الثلث الأول من الليل إلا وقد جاء الصريخ: لقد مات أمير المؤمنين؛ وذلك في عام مائتين وثمانية عشر
وفي نزع الموت الأخير للمأمون أوصى المعتصم أن يسير على طريقه بخلق القران وان يقرب إليه احمد بن أب دؤاد
فكان بعد ذلك من أهوال تيقن المعتصم انه لو فعل أي شيء بأحمد بن حنبل ستقوم إليه الناس فأمر بارجع احمد بن حنبل ومحمد بن نوح إلى العراق ولكن لم يتحمل محمد بن نوح القيود فمات في الطريق فلم يبقى إلا احمد بن حنبل لم يقف إلا احمد بن حنبل ما من احد وقف معه ولكن الله ثبته على الحق
وبعد فترة من الزمن بعث المعتصم إلي العراق ليرجع احمد بن حنبل ليكمل معه ما أوصى به المأمون
فجاء احمد بن حنبل إلي المعتصم وقد ثقلت عليه القيود فأمره المعتصم بالجلوس وقربه منه فقال المعتصم للجالسين ناظروه
فقالوا له ماذا تقول في القران ؟
قال لهم احمد بن حنبل ماذا تقولون في علم الله؟ فسكت عبد الرحمن
قال أحمد بن حنبل: القرآن من علم الله، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله
فقالوا فيما بينهم: يا أمير المؤمنين كفرك وكفرنا ، فلم يلتفت المعتصم إلى قولهم.
فقال عبد الرحمن: كان الله ولا قرآن
فقال الإمام أحمد: كان الله ولا علم ، فسكت عبد الرحمن ،
ثم قال الإمام أحمد: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسول الله حتى أقول به.
ولما يأس المعتصم حول الأمر من الترغيب إلي الترهيب
فقال المعتصم يا أحمد أما كنت تعرف صالح الرشيدي؟
قال أحمد: سمعت باسمه.
قال المعتصم: لقد كان معلمي ومؤدبي، وكان في ذلك الموضع جالساً وأشار إلى ناحية من القصر
فسألته عن القرآن فخالفني، فانتقمت منه، يا أحمد أجبني إلى القول بخلق القرآن حتى أطلق عنك
بيدي.
فأعاد أحمد قولته: أعطوني شيئاً من كتاب الله U
حينئذ غضب المعتصم فأشار عليه احمد بن أبي داؤد فقال له إن تركته سيقول الناس إنك تركت
مذهب المأمون ووصيته، وأنه غلب على خليفتين فهاج الخليفة وانتصر لسلطانه ، فوقف الخليفة
وقال: عليك اللعنة
ثم قال: خذوه فاسحبوه وعلِّقوه ، ثم جلس الخليفة على كرسي
وقال: أحضروا العقابين والسياط ، والعقابان هما خشبتان منصوبتان يربط فيهما المجلود من يديه،
ويرفع عن الأرض ليبقى معلقاً فيهما ، وأمر الخليفة كل جلاد أن يضرب الإمام سوطين حتى لا تفتر قوة الجلاد.
قال أحمد: يا أمير المؤمنين: الله اللهَ ، إن رسول الله r قال:
" لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس
والثيب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة"
قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة
ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله"
فبم تستحل دمي ولم آت شيئا من هذا؟
يا أمير المؤمنين، تذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك.
قال أحمد: في اليوم الذي خرجت فيه للسياط ومدت يداي للعقابين إذا أنا بإنسان يجذب ثوبي من ورائي ويقول: تعرفني؟ قلت: لا ؛قال: أنا أبو الهيثم العيار، اللصُّ الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين إني ضربت ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق، وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدنيا،فاصبر فأنت في طاعة الرحمن لأجل الدين.
فكان الإمام أحمد دائما يقول: رحم الله أبا الهيثم ، غفر الله لأبي الهيثم؛عفا الله عن أبي الهيثم؛
وضرب الإمام أحمد رحمه الله نحو ثمانين سوطاً ضرباً مبرحاً شديداً حتى سال دمه على ثيابه، وتقطع اللحم من جسده
حينئذ أدرك المعتصم إن احمد بن حنبل على حق فأطلق سراحه وندم الفقهاء والمحدثين علي عدم وقوفهم مع الإمام وإنهم تأولو قول الله تعالي
]إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ[ [النحل]
ندم المعتصم على ما فعله مع الإمام احمد بن حنبل وارد أن يقربه إليه ليكون معه وليكفر عن ما عمله مع الإمام ولكن رفض الإمام أن يكون مع أهل الضلال من المعتزلة
جعل الإمام أحمد كل من آذاه في حل إلا أهل البدعة، وكان يتلوا في ذلك قول الله تعالى:
]وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)[
(النور)
ولما أهين الإمام أحمد بن حنبل من قبل ابن أبي دؤاد رفع يديه إلى من ينصر المظلوم وقال: اللهم إنه ظلمني وما لي من ناصر إلا أنت؛ اللهم احبسه في جلده وعذبه، فما مات هذا حتى أصابه الفالج فيبس نصف جسمه وبقي نصفه حياً، دخلوا عليه وإذا به يخور كما يخور الثور، ويقول: أصابتني دعوة الإمام أحمد ما لي وللإمام أحمد ؟! ما لي وللإمام أحمد ؟!
ثم يقول: والله لو وقع ذباب على نصف جسمي لكأن جبال الدنيا وقعت علي، أما النصف الآخر فلو قرض بالمقاريض ما أحسست به.