تابع :
لا إنكار في العادات
ثم إن شيخ الأزهر أتى بعجيبة أخرى ، حيث قال إن النقاب عادة وليس عبادة ، وأنه لا يمت إلى الإسلام بصلة ، لا من قريب ولا من بعيد .
وقد علمت أخي القارئ تهافت هذا القول ، بما نقلناه إليك من أقوال العلماء ، ومنهم فقهاء المذاهب الأربعة .
لكننا نتنزل مع فضيلته ونقول له : هب أن النقاب ، أو ستر الوجه عن الرجال الأجانب عادة لا عبادة ، وأنه لا يمت إلى الإسلام بصلة ، فهل أنت تنكر على من فعل عادة من العادات المباحة في ملبس أو مشرب أو في غير ذلك من شئون الحياة ؟
ولماذا لا تنكر على الفتيات السافرات الكاسيات العاريات ، وما أكثرهن في مصر وفي غير مصر ، أم إن الإنكار لا يجب إلا على الفتيات المنقبات فقط ؟
وهل كشف الفتاة شعرها ونحرها وأجزاء أخرى من جسدها ، مما هو مشهور في مصر ، يمت إلى الإسلام بصلة في رأي شيخ الأزهر ، فترك الإنكار عليه ، وصوبه إلى النقاب ، لأنه لا يمت إلى الإسلام بصلة ، لا من قريب ولا من بعيد ؟!
الإجماع منعقد على أن المرأة لا يحل لها كشف شعر ولا نحر ، ولا ساق ولا فخذ أمام الرجال الأجانب ، والخلاف إنما هو في الوجه والكفين ، هل يجوز كشفهما أم لا .
والإجماع منعقد على أن للمرأة أن تغطي وجهها وكفيها ، خارج الصلاة والإحرام ، وأن ذلك إما مستحب وإما واجب عليها .
فكيف يسوغ لشيخ الأزهر أن ينكر على من فعلت واجباً أو مستحباً ، ويترك الإنكار على من فعلت منكراً صريحاً ، أجمع الفقهاء على إنكاره ؟
تسامح شيخ الأزهر
كثيراً ما سمعنا فضيلة الشيخ سيد طنطاوي ، منذ أن كان مفتي مصر ، ينادي بالتسامح واللين وترك التطرف في الدين ، وينادي بالتقريب بين المذاهب والأديان .
وفضيلته على علم بما يفعله كثير من العوام عند الأضرحة والمشاهد في مصر ، من استغاثة بالأموات وذبح القرابين لهم ، ودعائهم من دون الله ، لكشف الضر وجلب الخير .
فهل دعاء الأموات وسؤالهم الحاجات والطواف بالأضرحة وذبح القرابين لها يمت إلى الإسلام بصلة من قريب أو بعيد ؟
وإن كان لا يمت إلى الإسلام بصلة ، فأين إنكارك للمنكر يا شيخ الأزهر ؟
وحانات مصر وملاهيها يحصل فيها من المنكرات ما لايخفى على رب الأرض والسموات .
فهل شرب الخمور ورقص العاريات وما يصاحبه من المنكرات ، مما يمت إلى الإسلام بصلة يا شيخ الأزهر ؟
وإذا وسع شيخ الأزهر السكوت عن شرك عُبّاد الأضرحة والقبور ، ووسعه السكوت عما يفعله أهل الخنا والفجور ، ووسعه السكوت عن دعاة العري والسفور ، فلماذا لم يسعه السكوت عن الفتيات المنقبات ذوات الخدور ؟
أين دعوى التسامح واللين وترك التشدد في الدين ، التي يدندن حولها الشيخ في كل حين ؟
لماذا نرى تسامح فضيلته ولطف معاملته مع كل طوائف المجتمع ، حتى مع اليهود والنصارى والمشركين ، ولا نراه مع المخالفين له في مسائل من فروع الدين ، مثل النقاب وغيره ؟ أم إن السماحة واللين مأمور بها فقط مع أعداء الـدين ، ومع المجاهرين بالمنكرات من المسلمين ، دون عباد الله الصالحين ؟
لعلكم سمعتم معي رد شيخ الأزهر على الكفرة الفجرة الذين شتموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكيف كان يتكلم عن تلك الجريمة الشنعاء التي اقشعرت لها الجلود والقلوب ، كان الشيخ في رده في غاية الهدوء واللطف والبرود ، حتى خشينا على الشيخ أن يذوب ، وكأنه يتحدث عن مسألة من صغار الذنوب ، لا من عظائم الخطوب !
{ لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم }
لا ريب أن هذه الحادثة كانت مصيبة وكارثة على المتنقبات في مصر ، ولا يبعد أن يتذرع بها أعداء الدين من الكفرة و الملحدين ، فيبالغوا في الإساءة إلى أخواتنا المؤمنات المهاجرات في بلاد الغرب ، محتجين بما فعله شيخ الأزهر بشأن النقاب ، فيمنعوا النقاب والحجاب ويفرضوا السفور على المؤمنات .
إني لأذكر تلك المصيبة التي حلت بأخواتنا في بعض بلاد الشرق ، قبل سنوات ، حين ذهب شيخ أزهري من الدعاة المعروفين ، وأنكر النقاب ، فصدر في البلاد مرسوم يمنع النقاب في الجامعة ، وشدد الخناق على أخواتنا المنقبات ، ولعل ذلك الداعية الأزهري المتسامح قد شفى صدره بما فعله ، حيث أشعل نار الفتنة التي لا تزال تكوى بها أخواتنا المتنقبات في تلك البلاد حتى الآن .
وهاهو شيخ الأزهر يكرر ما فعله ذلك الداعية المشهور ، ويعيدها جذعة ، ولكن الخطب هنا أشد ، لأن شيخ الأزهر أشهر من ذلك الداعية ، ومنصبه أكبر ، وقد أسرعت وزارة التعليم المصري بعد ذلك ، فأصدرت بياناً مفاده أنه سيتم تفعيل القرار الذي اتخذته الوزارة من قبل وأيدته المحكمة الدستورية أخيراً بمنع التلميذات والمعلمات من ارتداء النقاب داخل الصفوف .
والعجيب أن شيخ الأزهر وقبله ذلك الداعية الأزهري ، من أكثر دعاة التــسامح وترك التطرف ، وما أدري ما الذي دعاهما إلى التطرف والتشديد على المسلمات المنقبات ؟
ومع ذلك ، فإني أسأل الله تعالى وأرجوه أن يجعل من هذه المحنة منحة ، وأن يعقب هذه المصيبة خيراً ورحمة على الأمة ، وهذا ما عهدناه من سنن الله الكونية الشرعية .
لقد جعل الله من حادثة الإفك ، التي تولى كبرها رأس المنافقين ، خيراً ورحمة ، كما قال تعالى { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم } الآية .
وكل من أراد أن ينال من الإسلام والمسلمين ، ولو زعم أنه على الحق ، فإن الله تعالى سـيدحره وسينصر دينه ويعلي كلمته ، فإن كلمة الله هي العليا ، وستظل هي العليا أبد الآبدين .
{ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } .
الخــاتمة
وبعد ، فإني أطلت كثيراً في بحثي هذا ، ولم يكن غرضي منه تفصيل حكم النقاب وذكر المذاهب فيه ، لأن المسألة قد أشبعت بحثاً وجدالاً من قديم الزمان ، والخلاف في المسألة يعد من خلاف الفروع ، ولم أرجح في بحثي هذا مذهباً على غيره ، والأمر فيها واسع .
وقد علمت أن حكمه يدور بين الوجوب والاستحباب .
وقد ذكر كثير من أهل العلم أنه إن خشيت الفتنة فإنه يلزمها ستروجهها عن الرجال الأجانب .
ولا ريب أن الفتنة الآن تكاد تكون متحققة ، إلا ما ندر . والله تعالى أعلم .
* وأوجه نصيحةإلى علماء المسلمين عامة ، وإلى شيخ الأزهر خاصة ، أقول لهم : اتقوا الله فيما تقولون وما تفعلون ، إنكم مسئولون يوم القيامة عما استرعاكم الله عليه من أمور الناس ، ولا تستنكفوا عن الرجوع إلى الحق ، فالحق قديم ، والحق أحق أن يتبع .
لقد كان علماء السلف ، ومنهم الأئمة الأربعة ، يرجعون عن أقوالهم إذا تبين لهم مخالفتها للدليل ، ومخالفتها لما هو أقوى منها ، ولهذا كان لهم مذهبان وقولان ، بل ربما كان لهم أقوال في المسألة الواحدة ، وقديم الشافعي وجديده أكبر شاهد على ذلك .
وأنتم تقولون القول ، تتمسكون به حتى الممات ، وكأنكم أعلم ممن سبقكم ممن مات .
هذا وأسأل الله تعالى أن يهدينا جميعاً لما يحبه ويرضاه من الأقوال والأفعال ، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ، وآخر دعــوانا أن الحمـد لله رب العالمين .
وكتب / سمير بن خليل المالكي المكي الحسني
9 / 11 / 1430هـ