بسم الله الرحمن الرحيم
الهجرة
قال الله لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
وقال إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أحبتي في الله :سنتكلم في هذه الخطبة وفي خطب ٍ قادمة ـ إن شاء الله ـ عن حدث ٍ غيّرَ مجرى التاريخ
ألا وهو حدَث الهجرة
وسيكون حديثنا عن الأحداث والوقائع التي حصلت في قصة الهجرة ونعلق على أحداثها ببعض العبر والمواعظ المستفادة من هذه الأحداث
استمرّت دعوة الرسول إلى الإسلام في مكة مدة ثلاث عشرة سنة , ولما تبيّن له عنادُ أهل مكة ورفضـُهم للإسلام بدأ رسول الله فِي كُلّ مَوْسِم حَجٍّ بعَرض دعوته على القبائل التي تأتي لمكة لأداء مناسك الحج , فَلَمّا أَرَادَ اللهُ إظْهَارَ دِينِهِ وَإِعْزَازَ نَبِيّهِ وَإِنْجَازَ مَوْعِدِهِ لَهُ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ فِي مَوْسِمِ من هذه المواسم، فَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فِي كُلّ مَوْسِمٍ . فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ لَقِيَ رَهْطًا مِنْ الْخَزْرَجِ أَرَادَ اللهُ بهِمْ خَيْرًا . فلَمّا لَقِيَهُمْ رَسُولُ اللهِ قَالَ لَهُمْ مَنْ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا : نَفَرٌ مِنْ الْخَزْرَجِ ، قَالَ أَمِنْ مَوَالِي يَهُودَ ؟ قَالُوا : نَعَمْ قَالَ أَفَلا تَجْلِسُونَ أُكَلّمُكُمْ ؟ قَالُوا : بَلَى . فَجَلَسُوا مَعَهُ فَدَعَاهُمْ إلَى اللهِ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ الإِسْلامَ وَتَلا عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ .
وَكَانَ مِن رحمة الله بِهِمْ أَنّ يَهُودَ كَانُوا مَعَهُمْ فِي بِلادِهِمْ وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ وَكَانُوا هُمْ أَهْلَ شِرْكٍ وَأَصْحَابَ أَوْثَانٍ وَكَانُوا قَدْ غَزَوا اليهودَ بِبِلادِهِمْ فَكَانُوا إذَا كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ قَال اليهودُ لَهُمْ : إنّه قد أَظَلّ زَمَانُ نبي نَتّبِعُهُ فَنَقْتـُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ . فَلَمّا كَلّمَ رَسُولُ اللهِ أُولَئِكَ النّفَرَ وَدَعَاهُمْ إلَى اللهِ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ يَا قَوْمِ تَعْلَمُون وَاَللهِ إنّهُ لَـَلنّبِيّ الّذِي تَوَعّدَكُمْ بِهِ يَهُودُ فَلا تَسْبِقُنّكُمْ إلَيْهِ . فَأَجَابُوهُ فِيمَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ .
ثُمّ انْصَرَفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ رَاجِعِينَ إلَى بِلادِهِمْ وَقَدْ آمَنُوا وَصَدّقُوا .
وانتشر الإسلام خلال تلك السنة في المدينة , حَتّى إذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ وَافَى الْمَوْسِمَ مِنْ الأَنْصَارِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلا ، فَلَقَوْهُ بِالْعَقَبَةِ . ،أخرج البخاري عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ قَالَ : كُنْت فِيمَنْ حَضَرَ الْعَقَبَةَ الأُولَى ، وَكُنّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلا ، فَبَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ عَلَى بَيْعَةِ النّسَاءِ [ أي على نمطها في البنود التي بايعَ النساءُ عليها ] وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ الْحَرْبُ . عَلَى أَنْ لا نُشْرِكَ بِاَللهِ شَيْئًا ، وَلا نَسْرِقَ وَلا نَزْنِيَ وَلا نَقْتُلَ أَوْلادَنَا ، وَلا نَأْتِيَ بِبُهْتَانِ نَفْتَرِيهِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا ، وَلا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ .
فَإِنْ وَفّيْتُمْ فَلَكُمْ الْجَنّةُ . وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأَمْرُكُمْ إلَى اللهِ عَزّ وَجَلّ إنْ شَاءَ عَذّبَ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ .
فلذلك سُمّيت هذه البيعة ببيعة النساء .
فَلَمّا انْصَرَفَوا بَعَثَ رَسُولُ اللهِ مَعَهُمْ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرِ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقْرِئَهُمْ الْقُرْآنَ وَيُعَلّمَهُمْ الإِسْلامَ وَيُفَقّهَهُمْ فِي الدّينِ فَكَانَ يُسَمّى مُقْرِئَ الْمَدِينَةِ
(( فتأمل أخي في الله كيف أمضى رسول الله ثلاث عشرة سنة من عمره يعاني من حياة لا راحة فيها ولا استقرار , تتربّص قريش في كل دقيقة منها بقتله , وتصب عليه ألواناً من المِحَن والشدائد
ثلاث عشرة سنة والرسول (بأبي هو وأمي) يعاني من غربة ٍ وهو بين أهله وقومه وكافة القبائل المحيطة به .
فلم ييأس ولم يضجر , ولم يؤثرْ ذلك على شيء ٍ من أنسه بربّه
سنين ٌ متواصلة من الصبر والجهاد في سبيل الله وحدَه , كانت هي الثمنَ لقاءَ مدّ ٍ إسلاميّ عظيم ينتشر في مشرق العالم ومغربـِه ,
انظرْ أخي إلى ما بذله رسول الله في الدعوة إلى الله حتى يصلـَنا الإسلام دون مشقة منا أو معاناة ,
ــ ولله ثم لرسوله الشكرُ والمِنة ــ فماذا بذلنا نحن في الدعوة إلى الله ؟؟
لا أطلبُ مني ومنك أن نذهب لديار الكفر وندعوهم إلى الإسلام ــ على عِظم هذا الأمر وجلالته فهو فرض على المسلمين ــ لكن الذي نريده أن نبدأ بأنفسنا وأهلينا وأولادنا وبناتِنا وجيراننا وأصدقائنا فندعوهم إلى الله , ندعوهم إلى المحافظة على الصلاة . إلى الإكثار من ذكر الله .إلى ترك المعاصي وإلى فعل الطاعات
لأن الله يريد منا ويحب بذلَ الجهد والصبر والتحمّل في الدعوة إليه .
كان من السهل جداً على الله أن يقيم َ دعائمَ المجتمع الإسلامي بدون أن يبذل حبيبه ومصطفاه هذا الجهد
ولكن تلك سنة الله في عباده . أرادَ أن يتحقق فيهم التعبدُ له اختياراً , كما تحققت فيهم صفة ُ العبودية له إجباراً
ما من ريب ٍ أن رسول الله كان هو المتكفلُ بعبء الدعوة إلى دين الله , ولكن ماذا عن أولئك الذين يدخلون في الإسلام وعن علاقتهم بعبء هذه الدعوة ؟؟ هل وقفوا مكتوفي الأيدي يراقبون الرسول ماذا يفعل ؟!!!!!!!
والجواب على هذا نجده في إرسال الرسول مصعبَ بنَ عُمَيْر ٍ إلى المدينة يدعو أهلها إلى الإسلام ويعلمهم القرآن , وهكذا تنتقل هذه الدعوة من الصحابة إلى التابعين إلى أن تصلَ إلينا , ))
فلنرجعْ إلى سيدنا مصعب داعية الإسلام ومقرئ المدينة ,ولـْنرَ هل نجحَ في مهمته ؟
انطلق سيدنا مصعب سعيداً بتلبية أمر الرسول, وراح يدعو أهل المدينة إلى الإسلام بحكمة وموعظة حسنة
حتى أن الرجلَ كان يأتيه وفي يده الحربة يريد قتله بها فيقول له سيدُنا مصعب : " أَوَتَقْعُدُ فَتَسْمَعَ فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا وَرَغِبْت فِيهِ قَبِلْتَهُ وَإِنْ كَرِهْته عَزَلْنَا عَنْك مَا تَكْرَهُ " فيقول له الرجل : أنصفت .
فَيعَرَضُ عَلَيْهِ الإِسْلامَ وَيقَرَأ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فيُسلم . حَتّى لَمْ تَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الأَنْصَارِ إلا وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مُسْلِمُونَ .
ثمّ إنّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رَجَعَ إلَى مَكّةَ ، في الموسم التالي ومعه جمع ٌ كبير من مسلمي المدينة , فَوَاعَدُوا رَسُولَ اللهِ أن يلتقوا في الْعَقَبَةَ ( وهي موضع بين منىً ومكة ,منها ترمى جمرة العقبة )
يقول كعبُ بن مالك : خَرَجْنَا مِنْ رِحَالِنَا لِمَعَادِ رَسُولِ اللهِ نَتَسَلّلُ تَسَلّلَ الْقَطَا مُسْتَخْفِينَ حَتّى اجْتَمَعْنَا فِي الشّعْبِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ ، وَنَحْنُ ثَلاثَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلا ، وَمَعَنَا امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِنَا : نُسَيْبَة ُ بِنْتُ كَعْبٍ أُمّ عُمَارَةَ , وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَدِيّ . فجَاءَنَا وَمَعَهُ عَمّهُ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ إلا أَنّهُ أَحَبّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ وَيَتَوَثّقَ لَهُ . وتكلم رسول الله فقَال : أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ . قَالَ فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ ثُمّ قَالَ : نَعَمْ وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ نَبِيّا لَنَمْنَعَنّك مِمّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللهِ فَنَحْنُ وَاَللهِ أَبْنَاءُ الْحُرُوبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ ( أي السلاح ) وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ فَاعْتَرَضَ الْقَوْلَ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التّيّهَانِ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ إنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرّجَالِ حِبَالا ، وَإِنّا قَاطِعُوهَا - يَعْنِي الْيَهُودَ - فَهَلْ عَسَيْتَ إنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ ثُمّ أَظْهَرَك اللهُ أَنْ تَرْجِعَ إلَى قَوْمِك وَتَدَعَنَا ؟ قَالَ فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللهِ
ثُمّ قَالَ : بَلْ الدّمَ الدّمَ وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنّي ، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ
ثم أَمَرَ رَسُولُ اللهِ َمَنْ مَعَهُ بِمَكّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالْخُرُوجِ إلَى الْمَدِينَةِ وَالْهِجْرَةِ إلَيْهَا ، وَاللّحُوقِ بِإِخْوَانِهِمْ مِنْ الأَنْصَارِ ، وَقَالَ إنّ اللهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ إخْوَانًا وَدَارًا تَأْمَنُونَ بِهَا . فَخَرَجُوا أَرْسَالا ، وَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ بِمَكّةَ يَنْتَظِرُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبّهُ فِي الْخُرُوجِ مِنْ مَكّةَ ، وَالْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ .
وسنقف بالحديث هنا , لنكملـَه في الخطبة القادمة ـ بمشيئة الله ـ ونسيرَ مع سيدنا وحبيبنا وقائدنا محمد ٍ وبرفقة صاحبه الصدّيق في طريق الهجرة ولِـنحُلَّ ضيوفاً على سادتنا الأنصار .
وقبل أن نختمَ الحديث , لابدّ من الإشارة إلى نقطة هامة , وهي أن حكمة الله اقتضت أن تسيرَ الدعوة الإسلامية في سبيل ٍ لا تدَعُ أيَّ شك للمتأمل في طبيعتها ومصدرها . ولا يقعُ أيّ ُ التباس ٍ بينها وبين غيرها من الدعوات الأخرى , * من أجل ذلك كان الرسول أمّياً لا يقرأ ولا يكتب
*ومن أجل ذلك بُعِث َ في أمة من الأميين الذين لم يقتبسوا حضارة ولم يُعرَفوا بثقافة معينة أو مدنيّة
*ومن أجل ذلك اقتضت حكمة الله أن يكونَ أنصارُهُ الأ ُوَل من غير قومه , حتى لا يظن َّ ظان بأن دعوة الرسول كانت في حقيقتها دعوة قومية أو قبَليّة , حاكتها رغبات قومه ونسجتها ظروف بيئته
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين , اللهم اجعلنا ممن يسيرون على خطاه ونهجه إلى يوم الدين , أقول قولي هذا وأستغفر الله ..............................