بسم الله الرحمن الرحيم
الهجرة
قال الله إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا
وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أيها الأحبة الكرام : لا يزال الحديث مستمرّاً عن هجرة حبيبنا المصطفى , وقد رأينا في الخطبة الماضية كيف بايعَ الرسولُ الأنصارَ ,وكيف بعث معهم سيدَنا مصعبَ بنَ عمير ٍ معلـّماً لهم . وكيفَ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ َمَنْ مَعَهُ بِمَكّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالْخُرُوجِ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَاللّحُوقِ بِإِخْوَانِهِمْ الأَنْصَارِ
فجعل القوم يتجهزون ويخرجون ويخفون ذلك، فكان أول من قدم المدينة من أصحاب رسول الله، ،
أبو سلمة ابن عبد الأسد ثم قدم بعده عامر بن ربيعة معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة، فهي أول ظعينة قدمت المدينة، ثم قدم أصحاب رسول الله أرسالاً فنزلوا على الأنصار في دورهم، فآووهم ونصروهم
ولم يهاجر أحدٌ من أصحاب رسول الله إلا مختفياً، غيرَ عمرَ بن ِ الخطاب ،
فقد روى سيدنا عليّ ٌ بنُ أبي طالب ٍ أنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه، وتنكب قوسه، وانتضى في يده أسهماً، واختصر عَنَزَتـَه( عصاه ) ومضى قِبَل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعاً مطمئناً، ثم أتى المقام فصلى ، ثم وقف على حِلـَق ِ القوم واحدة واحدة، وقال لهم: شاهت الوجوه،لا يرغم الله إلا هذه المعاطس من أراد أن يُثكلَ أمَّه، ويوتمَ ولده، ويُرَمِّلَ زوجته، فليلقني وراء هذا الوادي. قال علي: فما تبعه أحد إلا قوم من المستضعفين علـَّمهم وأرشدهم ومضى لوجهه.
(وقد يتساءل البعض:لماذا هاجر عمر علانية متحدّياً للمشركين على حين هاجرَ النبي مستخفياً والجواب أن عمر أو أي مسلم غير رسول الله يُعَد تصرفه تصرفاً شخصيّاً لا حجة تشريعية فيه , أما رسول الله فهو مشرّع , فلو أنه فعلَ كما فعلَ عمرُ لحسبَ الناس أن هذا هو الواجب , وأنه لا يجوز أخذ ُ الحَيْطة والحذر)
وخرج المسلمون جميعاً إلى المدينة، فلم يبق بمكة منهم إلا رسول الله، ، وأبو بكر، وعلي، أو مفتون محبوس، أو مريض، أو ضعيف عن الخروج.
أما رسول الله فكان ينتظر الإذنَ من ربِّه للخروج إلى المدينة .
وأما عن سيدنا أبي بكر ٍ الصديق فقد كان ينتظر الإذن من رسول الله ليصحبَه في طريق الهجرة
ففي صحيح البخاري أن أبا بكر ٍ تَجَهَّزَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ . قَالَ نَعَمْ فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ لِيَصْحَبَهُ وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وأخذ يتعهدهما بالرعاية أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وأما سيدُنا عليّ ٌ ــ فالعجبُ كلّ ُ العجب ِ في تأخر هجرته ــ , فقد أمرَه رسول الله أن يتخلـّفَ بعدَه بمكة َ
ريثما يؤدي عن رسول الله الودائعَ التي كانت عندَه للناس,إذ لمْ يكن أحد ٌ من أهل مكة له شيءٌ يخشى عليه إلا استودَعه عند رسول الله لـِما يعلمون من صدقه وأمانته .
فانظر أخي في الله وتأمل هذا , أهلُ مكة كلـّـُهم "أبوجهل وأبولهب والوليدُ بن المغيرة وأمية ُ بنُ خلف ..... وغيرهم من صناديد قريش ورؤوس ِ الكفر , كانوا يتربّصون برسول الله القتلَ . لكنهم لا يأمنون على أغراضِهم وحاجاتِهمُ النفيسة إلا رسولَ الله فهم قد أسمَوْه الصادق الأمين
وعِداك قد شهدوا بفضلك في العلى والفضل ما شهدت به الأعداء
تقول السيدة عَائِشَةُ فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ قَالَ قَائِلٌ لأَبِي بَكْرٍ:
هَذَا رَسُولُ اللهِ مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي وَاللهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلا أَمْرٌ قَالَتْ فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ لأَبِي بَكْرٍ :
أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : الصَّحَابَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ رَسُولُ اللهِ :نَعَمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ قَالَ رَسُولُ اللهِ بِالثمَنِ
قَالَتْ عَائِشَة فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفرَةً فِي جِرَابٍ فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ
وأمرَ أبو بكر ٍ ابنـَه عبدَالله أن يتسَمّعَ لهما ما يقولـُه الناس عنهما في بياض النهار,ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون معه من الأخبار , وأمرَ أيضاً مولاه (أي عبدُه المعتـَق) عامرَ بنَ فـُهَيْرة,أن يرعى غنمَه في النهار
ثم يرحها عليهما إذا أمسى إلى الغار(غار ثور)ليَطعَمَا من ألبانها,وأمر كذلك ابنتـَه أسماء أن تأتيهما من الطعام بما يصلحهما في كل مساء
( وهنا يبرز ويظهرُ لنا لمَ استنبط أهلُ السنة والجماعة على أن أبا بكر الصديق هو أقربُ الصحابة إليه وأولاهم بالخلافة , فقد استبقاه الرسول دون غيره من الصحابة كي يكونَ رفيقـَه في هذه الرحلة ,
ولقد عززت هذه الدلالة َ أمورٌ كثيرة ٌ أخرى مثلُ استخلافه له في الصلاة عند مرضه وإصرار النبي على أن لا يصلي عنه غيرُ أبي بكر وقوله "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلا لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلا"
ولقد كان أبو بكر على مستوى هذه المزيّة فقد كان مثال الصاحب الصادق بل والمضحّي بروحه وكل ما يملك من أجل رسول الله , فقد جنـّدَ أموالـَه وابنـَه وابنته ومولاه وراعي غنمـِه في سبيل خدمة رسول الله
ولما انطلق الرسول وصاحبَه ليقيما في غار ثور دخلَ أبو بكر قبْلَ الرسول فلمسَ الغارَ لينظرَ أفيه سبُع ٍ أو حيّة ؟ يقي رسولَ الله بنفسه,وهذا الذي يجب أن يكونَ عليه كلّ ُ مسلم لذا يقول
"لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ " )
أمّا المشركون فقد انطلقوا ـ بعدَ أن علموا بخروج النبي ـ يبحثون ويفتشون عنه حتى وصلوا إلى غار ثور وسمعَ الرسول وصاحبُه خفقَ أقدام المشركين فأخذ الروعُ أبا بكر وهمسَ يحدث النبيَّ :
لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا فَقَالَ " مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا "
ولما انقطعَ الطلبُ عنهما خرجا , بعد أن جاءهما عبدُ الله بنُ أرقط ( وهو من المشركين , كانا قد استأجراه ليدلهما على الطرق الخفيّة إلى المدينة بعد أن ِ اطمأنـّا إليه , فسارا إلى المدينة بإرشاد عبدِالله بن أرقط
وكان مشركو مكة قد جعلوا لكل من أتى برسول الله وأبي بكر حيّيْن أو ميْتين دية كل منهما (100 ناقة )
ولم تطمِعْ كلّ ُهذه الإغراءات هذا الدليلَ المشرك "عبدالله بن أرقط" بل بقيَ وفيّا لرسول الله وصاحبـِه
مما يدلنا على أن العرب وإن كانوا مشركين لكن كانوا متخلقين بأخلاق فاضلة لهذا قال رسول الله :
" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " وفي رواية " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق ".
وقد أغرت هذه الهبات من مشركي مكة كلّ َ فرسانِها,وأبرزُهم "سراقة بن جُعشـُم" ففي صحيح البخاري :
لَمَّا أَقْبَلَ النَّبِيُّ إِلَى الْمَدِينَةِ تَبِعَهُ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ فَسَاخَتْ بِهِ فَرَسُهُ قَالَ ادْعُ اللهَ لِي وَلا أَضُرُّكَ فَدَعَا لَهُ ,يقول سراقة : وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمْ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ فََلَمْ يَسْأَلانِي إِلا أَنْ قَالَ أَخْفِ عَنَّا
فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ ثمَّ مَضَى رَسُولُ اللهِ ,
حَتّى إذَا كَانَ فَتْحُ مَكّةَ وَفَرَغَ رَسُولُ اللهِ مِنْ حُنَيْنٍ وَالطّائِفِ ، خَرَجْت وَمَعِي الْكِتَابَ لأَلْقَاهُ فَلَقِيته بِالْجِعْرَانَةِ . قَالَ فَدَخَلْت فِي كَتِيبَةٍ مِنْ خَيْلِ الأَنْصَارِ . قَالَ فَجَعَلُوا يَقْرَعُونَنِي بِالرّمَاحِ وَيَقُولُونَ إلَيْك ( إلَيْك ) ، مَاذَا تُرِيدُ ؟ قَالَ فَدَنَوْت مِنْ رَسُولِ اللهِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ. قَالَ فَرَفَعْت يَدِي بِالْكِتَابِ ثُمّ قُلْت :
يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا كِتَابُك ( لِي ) ، أَنَا سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرّ . ادْنُهْ .
قَالَ فَدَنَوْت مِنْهُ فَأَسْلَمْت .
ووصلَ رسولُ الله قباء,فاستقبلـَه من فيها ,وأسّسَ هناك مسجد قباء الذي قال الله فيه : لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ
ثم واصلَ سَيْرَه إلى المدينة فدخلها في فتنورت وتشرّفت به ,والتفت الأنصار من حوله كلّ ٌ يُمسك راحلته يرجو النزول عندَه فكان يقول لهم :"دعوها فإنها مأمورة" فلم تزل راحلته تسير في سكك المدينة حتى وصلت أمام دار أبي أيوب الأنصاري فقال النبي :"ههنا المنزل إن شاء الله" يقول أبو أيوب :
لَمّا نَزَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللهِ فِي بَيْتِي ، نَزَلَ فِي السّفْلِ وَأَنَا وَأُمّ أَيّوبَ فِي الْعُلْوِ فَقُلْت لَهُ يَا نَبِيّ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي ، إنّي لأَكْرَهُ وَأُعْظِمُ أَنْ أَكُونَ فَوْقَك ، وَتَكُونَ تَحْتِي ، فَاظْهَرْ أَنْتَ فَكُنْ فِي الْعُلْوِ وَنَنْزِلَ نَحْنُ فَنَكُونَ فِي السّفْلِ فَقَالَ يَا أَبَا أَيّوبَ إنّ أَرْفَقَ بِنَا وَبِمَنْ يَغْشَانَا ، أَنْ نَكُونَ فِي سُفْلِ الْبَيْتِ قَالَ ولقد انكسرت جرّة لنا فيها ماء يوماً فقمت أنا وأم أيوب بِقَطِيفَةٍ لَنَا ، مَا لَنَا لِحَافٌ غَيْرَهَا ، نُنَشّفُ بِهَا الْمَاءَ تَخَوّفًا أَنْ يَقْطُرَ عَلَى رَسُولِ اللهِ مِنْهُ شَيْءٌ فَيُؤْذِيَهُ . اللهم اجعلنا ممن يتأدبون بآداب وأخلاق نبيّك وصحابته يارب العالمين
أقول قولي هذا.........