هجرة الحبشة الأولى
________________________________________
فعند ذلك تجهزَ ناس للخروج من ديارهم وأموالهم فراراً بدينهم كما أشار عليه الصلاة والسلام، وهذه هي أول هجرة من مكة، وعدّة أصحابها عشرة رجال وخمس نسوة، وهم: عثمانبن عفان وزوجه رقيّة بنت رسول الله، وأبو سلمة وزوجه أُم سلمة، وأخوه لأمه أبو سَبْرةبن أبي رُهْم، وزوجه أم كلثوم، وعامربن ربيعة وزوجه ليلى، وأبو حذيفةبن عتبةبن ربيعة وزوجه سهلة بنت سُهَيل، وعبد الرحمانبن عوف، وعثمانبن مظعون، ومصعببن عمير، وسُهَيْلبن البيضاء، والزبيربن العوّام، وجُلّهم من قريش، وكان عليهم ــــ فيما روى ابن هشام ــــ عثمانبن مظعون، فساروا على بركة الله، ولما انتهوا إلى البحر، استأجروا سفينة أوصلتهم إلى مقصدهم، فأقاموا آمنين من أذًى يلحق بهم من المشركين، ولم يبق مع النبي عليه الصلاة والسلام إلا القليل.
إسلام عمر
________________________________________
وفي ذلك الوقت أسلم الشهم الهمام عمربن الخطاب العدوي القرشي بعد ما كان عليه من كراهية المسلمين وشدة أذاهم. قالت ليلى ــــ إحدى المهاجرات لأرض الحبشة مع زوجها ــــ: كان عمربن الخطاب من أشد الناس علينا في إسلامنا، فلما ركبتُ بعيري أُريد أن أتوجه إلى أرض الحبشة إذا أنا به، فقال لي: إلى أين يا أُم عبد الله؟ فقلت: قد آذيتمونا في ديننا، نذهبُ في أرض الله حيث لا نؤذى، فقال: صحبكم الله، فلما جاء زوجي عامر أخبرته بما رأيت من رِقَّةِ عمر، فقال: ترجين أن يُسْلم؟ والله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب وذلك لما كان يراه من قسوته وشدته على المسلمين، ولكن حصلت له بركة دعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإنه قال قبيل إسلامه: «اللهم أعِزّ الإسلام بعمر». وكان إسلامه في دار الأرقمبن أبي الأرقم التي كان المسلمون يجتمعون فيها وقد حقق الله بإسلامه ما رجاه عليه الصلاة والسلام، فقد قال عبد اللهبن مسعود من رواية البخاري: ما زلنا أعزّة منذ أسلم عمر. فإنه طلب من رسول الله أن يعلن صلاته في المسجد ففعل وقد أدرك الكفارَ كآبةٌ شديدة حينما رأوا عمر أسلم، وكانوا قد أرادوا قتله حتى اجتمع جمع حول داره ينتظرونه، فجاء العاصبن وائل السَّهْمي وهو من بني سهم حلفاء بني عدي قوم عمر وعليه حُلَّة حِبَرَة، وقميص مكفوف بحرير، فقال لعمر: ما بالُكَ؟ فقال: زعم قومك أنهم سيقتلونني إنْ أسلمتُ. قال: لا سبيل إليك فأنا لك جار، فأمِنَ عمر، وخرج العاص فوجد الناس قد سال بهم الوادي، فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد هذا ابن الخطاب الذي صبأ. قال: لا سبيل إليه. فرجع الناس من حيث أتوا.
رجوع مهاجري الحبشة
________________________________________
وبعد ثلاثة أشهر من خروج مهاجري الحبشة رجعوا إلى مكة حيث لا تتيسر لهم الإقامة فيها لأنهم قليلو العدد ــــ وفي الكثرة بعض الأُنس ــــ وأَضِف إلى ذلك أنهم أشراف قريش ومعهم نساؤهم، وهؤلاء لا يطيب لهم عيش في دار غربة بهذه الحالة.
وقد أُولع بعض المؤرخين بحكاية يجعلونها سبباً في رجوع مهاجري الحبشة، وهي أنه بلغهم إسلام قومهم حينما قرأ عليهم الرسول سورة النجم، وتكلم فيها كلاماً حسناً عن آلهتهم حيث قال بعد: أَفَرَءيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19) وَمَنَواةَ الثَّالِثَةَ الاْخْرَى(20)
وهذا مما لا تجوز روايته إلا من قليلي الإدراك الذين ينقلون كل ما وجدوه غير متثبتين من صحته، وها نحن أُولاء نسوق لك أدلة النقل والعقل على بطلان ما ذكر، أما الحديث فسنده ومتنه قلقان، فالسند قال فيه القاضي عياض في الشفا: «لم يخرّجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم»، وأما المتن فليس أصحاب رسول الله ولا المشركون مجانين حتى يسمعوا مدحاً أثناء ذم ويجوز ذلك عليهم، فبعد ذكر الأصنام قال: إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَآء سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} (النجم: 23). فالكلام غير مُنْتَظم، ولو كان ذلك قد حصل لاتَّخذه الكفار عليه حجة يحاجّونه بها وقت الخصام، وهم من نعرفهم من العناد فيما ليس فيه أدنى حجة، فكيف بهذه؟ وليس ذلك القيل أقل من تحويل القبلة إلى الكعبة، وهذا قالوا فيه ما قالوا حتى سمَّاهم الله سفهاء وأنزل فيهم في سورة البقرة: {سَيَقُولُ السُّفَهَآء مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا} (البقرة: 142). ولكن لم يُسمع عن أي واحد من رجالاتهم والمتصدرين للعناد منهم أن قال: ما لك ذَممتَ آلهتنا بعد أن مدحتها؟ وكان ذلك أولى لهم من تجريد السيوف وبذل مُهج الرجال.
________________________________________
على أن المؤرخين الذين ينقلون هذه العبارة ويجعلونها سبباً لرجوع مهاجري الحبشة يقولون أثناء كلامهم: إن الهجرة كانت في رجب، والرجوع كان في شوال، ونزول سورة النجم كان في رمضان، فالمدة بين نزول السورة ورجوع المهاجرين شهر واحد، والمتأمّل أدنى تأمل يرى أن الشهر كان لا يكفي في ذاك الزمن للذهاب من مكة إلى الحبشة والإياب منها لأنه لم يكن إذ ذاك مراكب بخارية تسهّل السير في البحر، ولا تلغراف يوصل خبر إسلام قريش لمن بالحبشة، فلا غرابةَ بعد ذلك إن قلنا إن هذه الخرافة من موضوعات أهل الأهواء الذين ابتلى الله بهم هذا الدين، ولكن الحمد لله فقد منَّ علينا بحفظ كتابنا المجيد الذي يحكم بيننا وبين كل مُفترٍ كذاب ففي السورة نفسها: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى(3)
والذي ورد في الصحيح في موضوع هذا السجود ما رواه عبد اللهبن مسعود: أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ والنجم فسجد، وسجد مَنْ كان معه إلا رجلاً أخذ كفاً من حصى وضعه على جبهته وقال: يكفيني هذا، فرأيته قُتِلَ بعد كافراً. وليس في هذا الحديث أدنى دلالة على أن الذين سجدوا معه هم مشركون، بل الذي يفيده قوله: فرأيته قُتِل بعد كافراً أنه كان مسلماً ثم رأيته ارتدّ، وهذا ما حصل من بعض ضعاف القلوب الذين لم يتحملوا الأذى فكفروا، منهم: عليبن أميةبن خلف.
هذا، ولما رجع مهاجرو الحبشة إلى مكة لم يتمكن من الدخول إليها إلا مَنْ وجد له مُجيراً، فدخل أبو سلمة في جوار خاله أبي طالب، ودخل عثمانبن مظعون في جوار الوليدبن المغيرة، وقد ردّ عليه جواره حينما رأى ما صنعه بالمسلمين، فلم يَرَ أن يكون مرتاحاً وإخوانه معذبون.