أركانُ القراءةِ الصحيحةِ:
القرآن الكريم إنما يُتلقَّى بالرواية، فيرويه الجمع من القراء عن شيوخهم ويتسلسل السند إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ولذلك كان لقبول صحة القراءة ثلاثة أركان:
الأول: موافقتها لوجه من وجوه اللغة العربية ولو ضعيفًا كقراءة ابن عامر في سورة الأنعام في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} 1 ببناء الفعل "زُيِّن" للمجهول، ورفع "قتلُ" على أنه نائب فاعل، ونصب "أولادهم" مفعول للمصدر، وجر "شركائِهم" مضافًا إلى المصدر.
ولقد ثبت أن "شركائهم" مرسوم بالياء في المصحف الذي بعثه الخليفة عثمان -رضي الله عنه- إلى الشام.
وقد أنكر هذه القراءة بعض النحاة؛ بحجة أن الفصل بين المضاف والمضاف إليه لا يكون إلا بالظرف وفي الشعر خاصة، ولكن لما كانت قراءة ابن عامر ثابتة بطريق التواتر القطعي فهي إذن لا تحتاج إلى ما يسندها من كلام العرب، بل تكون هي حجة يرجع إليها ويستشهد بها.
ـــــــ
1 سورة الأنعام: 137.
(1/18)
________________________________________
الثاني: موافقتها للرسم العثماني ولو احتمالا، إذ موافقة الرسم قد تكون تحقيقًا أو تقديرًا كما في قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 1 فقراءة حذف الألف تحتمل اللفظ تحقيقًا، وقراءة إثبات الألف تحتمله تقديرًا، وتكون القراءة ثابتة في بعض المصاحف العثمانية دون بعض مثل قوله تعالى: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} 2 في الموضع الأخير من سورة التوبة بزيادة لفظ "مِنْ" لثبوته في المصحف المكي دون غيره من المصاحف.
الثالث: صحة سندها بتواتر عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وقد ثبت عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قوله: "القراءة سنة متبعة"3.
وإلى هذه الأركان الثلاثة يشير الإمام ابن الجزري في طيبة النشر بقوله:
فكل ما وافق وَجْهَ نَحْوِ ... وكان للرسم احتمالا يَحْوي
وصح إسنادًا هو القرآنُ ... فهذه الثلاثةُ الأركانُ
وحيثما يختلُّ ركنٌ أثبتِ ... شذوذه لو أنه في السَّبْعَةِ
وعلى هذا فإن اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة كانت القراءة شاذة ولا يجوز القراءة بها.
ـــــــ
1 سورة الفاتحة: 4.
2 سورة التوبة: 100.
3 انظر: الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، "ج1: ص211" حيث يقول: أخرج سعيد بن منصور في سننه عن زيد بن ثابت قال: "القراءةُ سنةٌ مُتَّبَعَةٌ".
(1/19)
________________________________________
7- مراتب القراءة:
للقراءة ثلاث مراتب: الترتيل، والتَّدْوير، والْحَدْر:
أما التَّرتيل: فهو قراءة القرآن الكريم بِتُؤَدَةٍ وطُمأنينة مع تدبر المعاني ومراعاة
(1/19)
________________________________________
أحكام التجويد، وهذه المرتبة هي أفضل المراتب الثلاث حيث نزل بها القرآن الكريم1، والله -سبحانه وتعالى- أمر نبيه بها فقال: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} .
أما التَّدْويرُ: فهو قراءة القرآن الكريم بحالة متوسطة بين الاطمئنان والسرعة مع مراعاة الأحكام، وهي تلي الترتيل في الأفضلية.
وأما الْحَدْرُ: فهو قراءة القرآن الكريم بسرعة مع المحافظة على أحكام التجويد.
وهذه المراتب كلُّها جائزة، وإليها أشار صاحب كتاب لآلئ البيان بقوله:
حدرٌ وتدويرٌ وترتيلُ تُرى ... جميعُها مراتبًا لمن قَرَا
وذكر بعض علماء التجويد مرتبة رابعة، وهي مرتبة التَّحْقيق، وقالوا بأنها أكثر تؤدة، وأشد اطمئنانًا من مرتبة الترتيل، وهي التي تستحسن في مقام التعليم2، ولكن لا بد أن يحترز معها من التمطيط والإفراط في إشباع الحركات، حتى لا يتولد منها بعض الحروف، ومن المبالغة في الغنات إلى غير ذلك مما لا يصح.
هذا ويحترز أيضًا مع مرتبة الحدر من الإدماج ونقص المدود والغنات، فالقراءة كما قيل بمنزلة البياض إن قل صار سمرة، وإن كثر صار برصًا.
وروي عن حمزة أنه قال لبعض من سمعه يبالغ في ذلك: أما علمت أن ما كان فوق الجعودة فهو قطط، وما كان فوق البياض فهو بَرََصٌ، وما كان فوق القراءة فليس بقراءة. ا. هـ، كلام المحقق ابن الجزري في النشر.
ـــــــ
1 من البرهان في تجويد القرآن، للشيخ محمد الصادق قمحاوي، ص6.
2 من نهاية القول المفيد، للشيخ محمد مكي، ص15.